كيف ندرك صلاة الجماعة
نعم الله على عباده متعاقبة تعاقب الليل والنهار، تأتي النعمة ثم تتبعها الأخرى، ومن أجلِّ هذه النعم وأكرمها: نعمة الصلاة في جماعة؛ وذلك لما لها من تأثيرات على حياة المسلم في رفع معنويته، وانشراح صدره، واطمئنان قلبه، وهدوء حياته، وسكون نفسه؛ ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبَهُ أمر، أو أغمَّه همُّ قام إلى الصلاة، فلا يجد راحته إلا فيها، ولا يستمتع إلا بخشوعها وخضوعها؛ فكان يقول: ((أرحنا بها يا بلال)).
ولما لأمر الصلاة من مكانة عظيمة فقد كانت فاصلة بين الكفر والإسلام، ثم عظم الله أمراً آخراً فيها وهو تأديتها في جماعة فأكد على ذلك سيد الخلق وأكرم الرسل فقال: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين؛ لشهد العشاء))1، وهذا لعظم حقها.
وجاء تأكيد ذلك في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)).
وكم يأسف الإنسان عندما يرى فئاماً من الناس لا يشهدون صلاة الجماعة إلا في المناسبات كالأعياد والجمع والأعراس، ويشهدها البعض لكن إن شهدوها لم يشهدوا منها إلا ركعات لا روح فيها، وآخرون يتثاقلونها فلا يؤدونها إلا بجهد ومشقة وقد ينقطعون عنها، ونخشى أن يكون وصفهم مذكوراً في قوله - تعالى -: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}2.
ولعل الكثير يتساءل عن الأسباب المؤدية إلى إدراك صلاة الجماعة؟ فنقول وبالله التوفيق هذا السؤال له إجابتين:
الأولى: إجابة فقهية وهو أنك تدرك الجماعة بإدراك ركعة من الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة))3، وهذا هو قول المحققين من أهل العلم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.
والإجابة الثانية: وهي إجابة علماء التزكية والسلوك ونصها: "أن إدراك الجماعة بالآتي:
· بإخلاص النية لله - سبحانه وتعالى -، والعزم الصادق على شهود الجماعة؛ لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن نوى شهود الجماعة وفقه الله وأعانه، ومن نوى التخلف عنها وكله الله إلى نيته، والله المستعان.
· الإكثار من الطاعات، واجتناب المحرمات، وترك المنهيات، ولذا قال أبو سليمان الداراني - رحمه الله -: "لا تفوت أحداً صلاة الجماعة إلا بذنب"4.
· باستشعار الثواب، ومطالعة الجزاء؛ فإن من لمح فجر الأجر؛ هان عليه ظلام التكليف، فاستشعر أنها أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين، وأن لك بكل خطوة إلى صلاة الجماعة حسنة، وتكفير سيئة، ورفع درجة؛ تعان على أدائها، وتشمر لشهودها؛ طمعاً في الأجر، ورجاء في الرحمة، وخوفاً من العذاب.
· بالمحافظة على تكبيرة الإحرام لمدة أربعين يوماً؛ حتى تكتب لك براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار، وإذا برئ المرء من النفاق فقد برئ من كل شر، واستطاع أن يشهد الجماعة.
· وأعظم باعث للمرء على شهود الجماعة أن يستشعر أنه بها يناجي رب العزة والجلال، وأنها الحبل الذي يوصله بربه - سبحانه وتعالى - فبواسطتها يتصل بربه، وبركوعها يعظمه، وبسجودها يطرح حاجته عليه، وينطرح بين يديه، وحاله كالطفل المسكين الذي لاذ بثدي أمه خوفاً من الهلاك، فالتصق بها حتى صار جزءاً منها، وهكذا المسلم المنيب إلى ربه يفزع إلى الصلاة، فيسجد لربه مخبتاً، منيباً، متوكلاً، يطرح الحاجات، ويُلِحُّ في الدعاء والسؤال، ويلهث بلسان الخائف المضطر، ويشكو سوء الحال، وضياع المال، وفساد الأحوال، ومخالفة الأفعال للأقوال.
فإذا تيقن العبد أنه مناج ربه في صلاته مع الجماعة؛ حافظ عليها بل على تكبيرة الإحرام منها، ولهذا جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال: " ما فاتتني تكبيرة الإحرام منذ أربعين سنة".
والله سبحانه أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
1 رواه البخاري برقم (618).
2 سورة النساء (142).
3 رواه البخاري برقم (580).
4 إحياء علوم الدين (1/69).