مراتب التلاوة
أيها الأخوة الكرام: كرَّم الله - سبحانه وتعالى - شهر رمضان فجعله أفضل الشهور، وأنزل فيه القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}1 يقول ابن كثير - رحمه الله -: "يمدح - تعالى - شهرَ الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه"2.
وبما أننا في شهر القرآن فإنه ينبغي لنا أن نتلو هذا القرآن حق تلاوته، وأن نتدارسه، ونكثر من ذلك كما كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يفعل حين يتدارسه مع جبريل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين تأكيداً وتثبيتاً.
وكانت قراءة النبي - عليه الصلاة والسلام - للقرآن قراءة مفسرة مرتلة؛ كما أمره ربه بذلك بقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}3 "أي اقرأه على مهل مع تدبر، قال الضحاك: "اقرأه حرفاً حرفاً"، وقال الزجاج: "هو أن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع، وأصل الترتيل التنضيد، والتنسيق، وحسن النظام، وتأكيد الفعل بالمصدر يدل على المبالغة على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض، ولا ينقص من النطق بالحرف من مخرجه المعلوم مع استيفاء حركته المعتبرة"4.
وقراءة القرآن بالترتيل تُعنى بالتجويد، وتبيين الحروف، وتحسين المخارج، وإظهار المقاطع؛ وهذا حسن مطلوب، وقد سئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن قوله - تعالى -: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} فقال: "هو تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف"، وعن ابن عباس أيضاً في قوله: {ورتل القرآن ترتيلاً} قال: "يقرأ آيتين ثلاثة ثم يقطع لا يهذرم"5، وسمع علقمة رجلاً يقرأ قراءة حسنة فقال: لقد رتل القرآن - فداه أبي وأمي -، وقال أبو بكر بن طاهر: تدبر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه"6.
وجاء في حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا))7، وهذه أم سلمة - رضي ا لله عنها - تصف لنا قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقرآن وترتيله له فتقول: "كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية، يقول: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ثم يقف ((الحمد لله رب العالمين)) ثم يقف، ثم يقول: ((الرحمن الرحيم)) ثم يقف، ثم يقول: ((مالك يوم الدين)) ثم يقف"88
وقد علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كيف يرتلون القرآن ويجودونه؛ حتى أصبح منهم من يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم، وأمره الناس بأخذ القرآن عنهم، حيث قال: ((خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود - فبدأ به -، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب))99.
وشهر رمضان هو فرصة عظيمة للمسلمين جميعاً لقراءة القرآن، والخلوة به، وتدبر معانيه، وتأمل آياته، وينبغي أن نعلم أن لقراءة القرآن مراتب ذكرها علماء التجويد، وبعضهم يعدُّها أربعاً نذكرها مختصرة:
المرتبة الأولى: التحقيق: وهي القراءة بتؤدة وطمأنينة بقصد التعليم، مع تدبر المعاني، ومراعاة الأحكام.
المرتبة الثانية: الترتيل: وهي القراءة بتؤدة وطمأنينة لا بقصد التعليم، مع تدبر المعاني، ومراعاة الأحكام.
المرتبة الثالثة: الحدر: وهي القراءة بسرعة مع مراعاة الأحكام.
المرتبة الرابعة: التدوير: وهي القراءة بحالة متوسطة بين التؤدة والإسراع، مع مراعاة الأحكام.
ويمكن للإنسان أن يقرأ القرآن على أي مرتبة من هذه المراتب، أو أن يكون له في رمضان عدة مصاحف، فمصحف يقرأه بمرتبة التحقيق، ومصحف يقرأه بمرتبة الترتيل، ومصحف بمرتبة الحدر، ومصحف بمرتبة التدوير.
والمقصود هو أن يقرأ الإنسانُ القرآنَ بتدبر وتمهل وتعقل، ويحذر من أن يقرأه هذرمة؛ حتى يحوز القارئ على الأجور العظيمة فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ومن قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألف لام ميم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))110، وروى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يحب أن يقرأ القرآن كما أنزل))11.
نسأل الله - تعالى - أن يوفقنا لطاعته، وأن يجعلنا من الذين يتلون كتابه حق تلاوته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
1 سورة البقرة (185).
2 تفسير القرآن العظيم (1/292).
3 سورة المزمل (4).
4 فتح القدير (5/443).
5 الدر المنثور (6/313).
6 تفسير القرطبي (19/38).
7 رواه أبو داود (1466) والترمذي (2914)، وهو في صحيح أبي داود برقم (1317).
8 رواه الترمذي (2851).
9 رواه البخاري رقم (3475)، ومسلم (4506).
10 رواه الترمذي (2835)، وقال: "حديث حسن صحيح غريب"، وهو في الصحيحة للألباني برقم (3327).
11 أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1719).